الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***
118- مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اتركوه فتركوه فبال ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء (1) فصب على ذلك المكان. 119- وعن عبد الله بن دينار أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يبول قائما لم يذكر مالك في حديثه عن يحيى بن سعيد أن الأعرابي بال قائما وترجم الباب في البول قائما وهذا الحديث رواه يحيى بن سعيد عن أنس سمعه منه عن النبي عليه السلام كذلك رواه يزيد بن هارون وعبد الله بن المبارك وعبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك يحدث بذلك وقد رواه عن أنس أيضا ثابت البناني وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وقد ذكرنا طرقه في التمهيد حدثنا أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد قال سمعت أنس بن مالك يقول ((دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فأتى النبي -عليه السلام- فقضى حاجته فلما قام بال في ناحية المسجد فصاح به الناس فكفهم رسول الله حتى فرغ من بوله ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بول الأعرابي)) وقد رواه أبو هريرة عن النبي -عليه السلام- كما رواه أنس من حديث بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد ولا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده وقد ذكرته في التمهيد وفيه من الفقه أن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر فيه شيء منها فقد طهرها وأنها لا تضره ممازجته لها إذا غلب عليها وسواء كان قليلا أو كثيرا وقد جعله الله تعالى طهورا وأنزله علينا ليطهرنا به وقال رسول الله -عليه السلام- ((الماء لا ينجسه شيء)) يعني إلا ما غلب عليه من النجاسة فغيره ومعلوم أنه لا يطهر نجاسة حتى يمازجها فإن غلب عليها ولم يظهر فيه شيء منها فالحكم له وإن غلبته النجاسة فالحكم لها إذا ظهر في الماء شيء منها هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث وهو من أصح ما يروى في الماء عن النبي -عليه السلام- وإلى هذا المذهب ذهب جمهور أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وسالم والقاسم وبن شهاب وربيعة وأبو الزناد وهو قول مالك في رواية أهل المدينة عنه وقول أصحابه المدنيين وقد ذكرنا ما لابن القاسم وغيره من المصريين عن مالك في ذلك وما لسائر العلماء في الماء من المذاهب فيما تقدم والحمد لله وحديث هذا الباب لا يقدر أصحاب الشافعي ولا أصحاب أبي حنيفة على دفعه وهو ينقض ما أصلوه في الماء إلا أن أصحاب الشافعي فزعوا - لما لزمتهم الحجة به - إلى التفرقة بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه فراعوا في ورودها عليه مقدار القلتين وهو عندهم خمسمائة رطل ولم يراعوا في وروده عليها ذلك المقدار لحديث أسماء في غسل ثوبها من دم الحيض وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها في الإناء ونحوهما وقد مضى القول عليهم في ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب والله الموفق للصواب ومن حجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم وأمر بصب الماء على بول الأعرابي ونهى أن يدخل من يستيقظ من نومه يده في الإناء ومعلوم أن غسلها من ماء الإناء مخالط لما في اليد من النجاسة وهذا وما كان مثله كثير دلل على الفرق بين ورود النجاسة على الماء وبين وروده عليها وقد فرق المسلمون كافة بين غسل النجاسات من الثياب والأبدان وغيرها فلم يراعوا في ذلك مقدارا وبين ورود النجاسات من العذرات والميتات في الآبار والأواني والغدر الصغار قالوا فدل ذلك على ما ذكرنا من الاعتبار. وأما مذهب جمهور أهل المدينة - وهو قول أهل البصرة وغيرهم - فإنهم لا يعتبرون في قليل الماء ولا كثيره إلا ما غيره وقد مضى القول في ذلك واضحا والحمد لله ذكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية عن داود بن أبي هند قال سألت سعيد بن المسيب عن الحياض والغدر يلغ فيها الكلاب فقال أنزل الله الماء طهورا فلا ينجسه شيء وعن القاسم والحسن وعكرمة مثله. وأما البول قائما فليس فيه عند مالك حديث مسند وله فيه عن بن عمر ما ذكره وقد اختلف في البول قائما فأرفع ما في ذلك ما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد قال حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال عليها قائما وذكر أبو بكر عن بن إدريس عن الأعمش وحميد عن أبي ظبيان قال رأيت عليا بال قائما وذكرنا الأسانيد عن أبي هريرة وبن عمر وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والشعبي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير ويزيد بن الأصم والحكم - أنهم بالوا قياما ثم ذكرنا في باب من كره البول قائما - إنكار عائشة أن يكون رسول الله بال قائما وعن عمر قال ما بلت قائما منذ أسلمت وعن بن مسعود وبن بريدة والشعبي أنهم قالوا من الجفاء أن يبول قائما وعن الحسن أنه كره البول قائما وعن مجاهد قال ما بال رسول الله قائما إلا مرة في كثيب أعجبه قال أبو عمر من أجاز البول قائما فإنما أجازه خوف ما يحدثه البائل جالسا في الأغلب من الصوت الخارج عنه إذا لم يمكنه التباعد عمن يسمعه ويحتاج مع ذلك أن يرتاد لبوله موضعا دمثا لئلا يطير إليه شيء من بوله فهذا وجه البول قائما وبنحو هذا قال عمر بن الخطاب ((البول قائما أحصر للدبر)) وقد جاء عن النبي عليه السلام أنه كان إذا بال قائما لم يبعد عن الناس ولا أبعدهم عن نفسه بل أمر حذيفة بالقرب منه إذ بال قائما وروى أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق سفيان عن حذيفة قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال ((ادن)) فدنوت حتى قمت عند عقبيه وروي عنه من مراسيل عطاء وعبيد بن عمير أنه بال جالسا فدنا منه رجل فقال ((تنح فإن كل بائلة تفيخ ويروى ((تفيش)) وقال إسحاق بن راهويه لا ينبغي لأحد أن يتقرب من الرجل وهو يتغوط أو يبول جالسا لقول النبي عليه السلام تنح)) وروي عن النبي عليه السلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان إذا تبرز تباعد وبعضهم يقول فيه إذا ذهب أبعد في المذهب وفي حديث جابر حتى لا يراه أحد وفي حديث يعلى بن مرة استبعد وتوارى وروى عبد الرحمن بن أبي قراد أنه سمع - عن النبي عليه السلام مثله وروي عنه عليه السلام من حديث أبي موسى أنه قال ((إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله)) يعني موضعا دمثا أو ذا صبب ونحوه مما يكون أنزه له من الأذى. وأما قول مالك أنه سئل عن غسل الفرج من البول والغائط هل جاء فيه أثر فقال بلغني أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من الغائط وأنا أحب غسل الفرج من البول فإنه عنى بقوله -والله أعلم- أن بعض من مضى كانوا يتوضؤون من البول وهو عمر بن الخطاب لأن من روايته أنه كان يتوضأ بالماء وضوءا لما تحت إزاره وقد مضى في كتابنا هذا في قصة أهل قباء وسائر الأمصار أنهم كانوا يتوضؤون من الغائط والبول بالماء ما يكفي وقد مضى في حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنجي بالماء من وجوه شتى ولا خلاف بين العلماء في جواز الاستنجاء من الغائط بالماء فلا معنى للكلام في ذلك. 120- مالك عن بن شهاب عن بن السباق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع ((يا معشر المسلمين ! إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك)). 121- وعن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. 122- وعن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه قال لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء قال أبو عمر قول أبي هريرة في رواية عبد الرحمن عنه لولا أن يشق على أمته تفسيره ما رواه الأعرج وغيره عنه بأن ذلك إنما علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته له عنه عليه السلام والأحاديث عن النبي -عليه السلام- أنه قال ((لولا أن أشق على أمتي)) كثيرا جدا منهم من يقول فيها ((مع كل وضوء)) ومنهم من يقول فيها ((مع كل صلاة)) وقد ذكرنا كثيرا منها في التمهيد وذكرنا هناك الاختلاف عن بن شهاب في إسناد حديثه الأول في هذا الباب عن بن السباق عن النبي عليه السلام قوله ((يا معشر المسلمين)) الحديث. وأما قوله فاغتسلوا ففيه الأمر بالغسل للجمعة وذلك عندنا محمول على الندب والفضل بدليل قول عائشة ((كان الناس عمال أنفسهم وكانوا يشهدون الجمعة بهيئاتهم فقيل لهم لو اغتسلتم لئلا يؤذي بعضهم بعضا بريحه)) وأمروا مع ذلك بأخذ الطيب والمس منه لمن قدر عليه وروى الشافعي وغيره عن (سفيان بن عيينة عن يحيى ) بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت ((كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيئاتهم يوم الجمعة فقيل لهم لو اغتسلتم)) وروى سفيان بن عيينة أيضا عن عمرو بن دينار عن الزهري قال جاء عثمان بن عفان وعمر يخطب يوم الجمعة فقال عمر ما بال رجال يستأخرون إلى هذه الساعة فقال عثمان ما كان إلا الوضوء فقال عمر الوضوء أيضا)) وفي حديث عمر بن الخطاب حين قال له عثمان يوم الجمعة ما زدت أن سمعت النداء على أن توضأت فقال عمر الوضوء أيضا ! ! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ولم يأمره بالانصراف للغسل ولا بإعادة الصلاة ولا قال له إن الصلاة في الجمعة لا تجزيك بغير غسل ولا رأى ذلك عثمان واجبا عليه دليل واضح على أن غسل الجمعة ليس من فرائض الجمعة وسيأتي حديث عمر هذا من رواية مالك في غسل الجمعة إن شاء الله وأبين من هذا في هذا المعنى حديث سمرة وحديث أبي سعيد الخدري كلاهما عن النبي -عليه السلام- أنه قال ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل)) وقد ذكرنا حديث أبي سعيد وحديث سمرة بن جندب كلاهما عن النبي عليه السلام بأسانيدهما وذكرنا من روى من الصحابة مثل حديثهما بإسناده أيضا في التمهيد والحمد لله فبان بذلك أن الغسل لصلاة الجمعة سنة وفضيلة لا فريضة وأبو سعيد هذا الذي روى عن النبي - عليه السلام ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) قد روى ((ومن اغتسل فالغسل أفضل)) وهذا كله يدل على أن أمره بالاغتسال للجمعة ندب وفضل وسنة لا واجب فرضا وسيأتي هذا المعنى واضحا أيضا في باب غسل الجمعة إن شاء الله وفي هذا الحديث أيضا الغسل للعيدين لقوله عليه السلام ((إن هذا يوم جعله الله عيدا فاغتسلوا)) والقول في غسل العيدين كالقول في غسل الجمعة إلا أن غسل الجمعة عند بعض أهل العلم آكد في السنة وفيه أخذ الطيب ومسه لمن قدر عليه يوم الجمعة وفي العيدين وذلك مندوب إليه حسن مرغب فيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف خروجه برائحة الطيب إذا خرج إلى الصلاة وإذا مشى وقد قيل إن رائحته كانت تلك بلا طيب صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك إسحاق بن راهويه وقد قال عليه السلام - ((لا تردوا الطيب فإن طيب الريح خفيف المحمل وقد قال عليه السلام ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)) وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب وجوب سنة وأدب والله أعلم. وحدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة فسألت بن عباس عنه فقال لا أعلمه قال سفيان. وأخبرني بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال من أتى الجمعة فليمس طيبا إن كان لأهله غير مؤثم من تركه قال أبو عمر إن كان أبو هريرة يوجب الغسل ويوجب الطيب ما كان في قوله حجة إذ كان الجمهور يخالفونه فيما تأول من ذلك وروى الوليد بن مسلم عن موسى بن صهيب قال كانوا يقولون الطيب يغني من الغسل يوم الجمعة وفيه الترغيب في السواك والآثار في السواك كثيرة جدا وكان سواك القوم الأراك والبشام وكل ما يجلو الأسنان ولا يؤذيها ويطيب نكهة الفم فجائز الاستنان به وقال بن عباس ((ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه)) وقالت عائشة ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي أول ما يبدأ بالسواك)) وسمعته يقول ((السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) وكان ربما استاك في الليلة مرارا والعلماء كلهم يندبون إليه ويستحبونه ويحثون عليه وليس بواجب عندهم قال الشافعي لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق وهذا الحديث يحمله أهل العلم على أن ذلك كان منه -عليه السلام- وهو يخطب على المنبر وإذا كان ذلك كذلك كان فيه دليل على ان للخطيب أن يأتي في خطبته بكل ما يحتاج إليه في فصول الأعياد وفضل رمضان والترغيب في صيامه وقيامه وما كان مثل ذلك مما بالناس من حاجة إلى معرفته وفيه دليل على ان من حلف أن يوم الجمعة يوم عيد فقد بر ولم يحنث وقد ذكرنا في التمهيد حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن بن عباس قال الغسل يوم الجمعة ليس بواجب ومن اغتسل فهو خير وأطهر ثم قال إن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسون الصوف وكان المسجد ضيقا متقارب السقف فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في يوم صائف شديد الحر ومنبره صغير إنما هو ثلاث درجات فخطب الناس فعرقوا في الصوف فصار يؤذي بعضهم بعضا حتى بلغت أرواحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال ((يا أيها الناس ! إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أطيب ما يجد من طيبه أو دهنه. 123- مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة فأري عبد الله بن زيد الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم فقال إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل ألا تؤذنون للصلاة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن زيد ورؤياه في بدء الأذان - جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة قد ذكرت منها في التمهيد ما فيه بلاغ وشفاء على أنا لم نقتصر منها إلا على أحسنها وهي متواترة الطرق من نقل أهل المدينة وأهل الكوفة ولا أعلم فيها ذكر الخشبتين إلا في مرسل يحيى بن سعيد هذا وفي حديث أبي جابر البياضي عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد ذكره عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي جابر البياضي وإبراهيم وأبو جابر متروكان. وأما سائر الآثار فإنما فيها أنه أراد أن يتخذ بوقا كبوق اليهود وفي بعضها شبور كشبور النصارى وفي أكثرها الناقوس كناقوس النصارى حتى رأى عبد الله بن زيد رؤياه في الأذان ورأى عمر بن الخطاب مثل ذلك فلما حكى عبد الله بن زيد لرسول الله الأذان الذي علمه في المنام قال له ((ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا)) وقد ذكرنا الآثار بذلك كله في التمهيد وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة وحسبك بذلك فضلا لها وشرفا ولو لم تكن من الوحي ما جعلها -عليه السلام- شرعة ومنهاجا لدينه والله أعلم والآثار المروية في الأذان وإن اختلفت الألفاظ فيها فهي متفقة كلها في أن أصل أمره وبدء شأنه كان عن رؤيا عبد الله بن زيد وقد رآه عمر أيضا وأجمع المسلمون على أن رسول الله -عليه السلام- أذن له بالصلاة حياته كلها في كل مكتوبة وأنه ندب المسلمين إلى الأذان وسنة لهم وقد اختلف العلماء في وجوبه على الجماعات والمنفردين على حسب ما نذكره في هذا الباب وفيما بعده من هذا الكتاب والأحاديث عن أبي محذورة في الأذان أيضا مختلفة في التكبير في أوله وفي الترجيع وعلى حسب اختلاف الروايات في ذلك عن بلال وأبي محذورة - اختلف الفقهاء واختلف كل فريق منهم ببلده أيضا إلا أن الأذان مما يصح الاحتجاج فيه بالعمل المتواتر في ذلك في كل بلد ولذلك قال الجلة من المتأخرين بالتخيير والإباحة في كل وجه نقل منه. وأما اختلاف أئمة الأمصار في كيفية الأذان والإقامة فذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن الأذان مثنى مثنى والإقامة مرة مرة إلا أن الشافعي يقول في أول التكبير الله أكبر أربع مرات وذلك محفوظ من رواية الثقات في حديث أبي محذورة وفي حديث عبد الله بن زيد قال وهي زيادة يجب قبولها وزعم الشافعي أن أذان أهل مكة لم يزل في آل أبي محذورة كذلك إلى وقته وعصره قال أصحابه وكذلك هو حتى الآن عندهم وذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين وقد روي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة وفي أذان عبد الله بن زيد والعمل عندهم بالمدينة على ذلك في آل سعد القرظ إلى زمانهم واتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان وذلك رجوع المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين رجع فمد صوته جهرة بالشهادتين مرتين ولا خلاف بين مالك والشافعي في الأذان إلا في التكبير في أوله فإن مالكا يقوله مرتين الله أكبر الله أكبر والشافعي يقوله أربع مرات ولا خلاف بينهما في الإقامة إلا في قوله قد قامت الصلاة فإن مالكا يقولها مرة والشافعي يقولها مرتين وأكثر العلماء على ما قال الشافعي وبه جاءت الآثار. وأما الليث بن سعد فمذهبه في الأذان والإقامة كمذهب مالك سواء لا يخالفه في شيء من ذلك. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة الله أكبر أربع مرات قالوا كلهم ولا ترجيع في الأذان وإنما يقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين ثم لا يرجع إلى الشهادة بعد ذلك ولا يمد صوته وحجتهم في ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثنا أصحاب محمد -عليه السلام- أن عبد الله بن زيد جاء إلى النبي -عليه السلام- فقال يا رسول الله ! رأيت في المنام كأن رجلا قام وعليه بردان أخضران على جذم حائط فأذن مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى وقعد قعدة بينهما قال فسمع بذلك بلال فقام فأذن مثنى وقعد قعدة وأقام مثنى يشفعون الأذان والإقامة وهو قول جماعة التابعين والفقهاء بالعراق قال أبو إسحاق السبيعي كان أصحاب علي وعبد الله يشفعون الأذان والإقامة فهذا أذان الكوفيين متوارث عندهم به العمل قرنا بعد قرن أيضا كما توارث الحجازيون في الأذان زمنا بعد زمن على ما وصفنا. وأما البصريون فأذانهم ترجيع التكبير مثل المكيين ثم الشهادة بأن لا إله إلا الله مرة واحدة وبأشهد أن محمدا رسول الله مرة ثم حي على الصلاة مرة ثم حي على الفلاح مرة ثم يرجع المؤذن فيمد صوته ويقول أشهد أن لا إله إلا الله الأذان كله مرتين مرتين إلى آخره أخبرنا احمد بن عبد الله بن محمد بن علي قال حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا يزيد بن إبراهيم أنه سمع الحسن وبن سيرين يصفان الأذان الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح يسمع بذلك من حوله ثم يرجع فيمد صوته ويجعل إصبعيه في أذنيه فيقول أشهد أن لا إله إلا الله مرتين أشهد أن محمدا رسول الله مرتين حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. وأما أحمد بن حنبل فذكر عنه أبو بكر الأثرم أنه سمعه يقول أنا أذهب في الأذان إلى حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه ثم وصفه أبو عبد الله فكبر أربعا وتشهد مرتين مرتين لم يرجع قال أحمد والإقامة الله اكبر مرتين وسائرها مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها مرتين قال أبو بكر وسمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول من أقام مثنى مثنى لم أعنفه وليس به بأس قيل لأبي عبد الله حديث أبي محذورة صحيح فقال أما أنا فلا أدفعه (قيل له أفليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد) فقال أليس قد رجع النبي -عليه السلام- إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد قال أبو عمر ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير وقالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي -عليه السلام- جواز ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر الله أكبر مرتين في أول الأذان ومن شاء قال ذلك أربعا ومن شاء رجع في أذانه ومن شاء لم يرجع ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان مرتان على كل حال ذكر بن أبي شيبة قال حدثنا بن علية عن يونس عن الحسن قال الإقامة مرة مرة فإذا قال قد قامت الصلاة قال مرتين ومن حجة من قال قد قامت الصلاة مرتين حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة يعني قوله قد قامت الصلاة فإنه يثنيه وحديث شعبة عن أبي جعفر المؤذن عن أبي المثنى أنه سمع بن عمر يقول كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنى مثنى والإقامة مرة مرة إلا قوله قد قامت الصلاة فأنه كان يقوله المؤذن مرتين واختلف العلماء في وجوب الأذان فأما مالك وأصحابه فإن الأذان عندهم إنما يجب في مساجد الجماعات حيث يجتمع الناس وقد نص ذلك في موطئه واختلف المتأخرون من أصحابه على قولين أحدهما أنه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر وما جرى مجرى المصر من القرى وقال بعضهم هو فرض على الكفاية وكذلك اختلف أصحاب الشافعي وذكر الطبري عن مالك قال إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة ولا أعلم خلافا في وجوب الأذان جملة على أهل الأمصار لأنه من العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية يقول لهم ((إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفوا وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا)) أو قال ((فشنوا الغارة)) وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود الأذان فرض ولم يقولوا على الكفاية وسنزيد المسألة بيانا فيما بعد - إن شاء الله - من هذا الباب ومن باب النداء في السفر بعون الله وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد. 124- وأما حديثه عن بن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)) فاختلف العلماء في معناه فذهب بعضهم إلى أن الذي يسمع النداء يقول مثل ما يقول المؤذن من أول الأذان إلى آخره وحجتهم ظاهر هذا الحديث وعمومه وحديث أم حبيبة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندي فسمع المؤذن قال كما يقول حتى يسكت وحديث عبد الله بن عمرو أن رجلا قال يا رسول الله ! ما بال المؤذنين يفضلوننا فقال رسول الله ((قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعط)) وقال آخرون يقول كما يقول المؤذن في كل شيء إلا في قوله حي على الصلاة حي على الفلاح فإنه يقول إذا سمع المؤذن يقول ذلك لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يتم الأذان معه إلى آخره وحجتهم حديث عمر بن الخطاب وحديث معاوية عن النبي -عليه السلام- بذلك على أن حديث معاوية مضطرب الألفاظ وقد ذكرنا طرقه في التمهيد وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التكبير والتشهد ورووا بذلك أثرا تأولوه وقال آخرون إنما يقول مثل ما يقول المؤذن في التشهد خاصة وإن شاء قال وأنا أشهد بما تشهد به ونحو هذا واحتجوا بحديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا - غفر له)) وبحديث عائشة أن النبي -عليه السلام- كان إذا سمع الأذان قال ((وأنا أشهد وأنا أشهد)) وهذان الحديثان فيهما الإتيان بمعنى الأذان وبمعنى الذكر والإخلاص والتشهد دون لفظه وقد ذكرنا الآثار كلها بطرقها في التمهيد واختلف الفقهاء في المصلي يسمع الأذان - وهو في نافلة أو فريضة فقال مالك إذا أذن وأنت في صلاة مكتوبة فلا تقل مثل ما يقول وإذا كنت في نافلة فقل - مثل ما يقول - التكبير والتشهد فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث هذه رواية بن القاسم ومذهبه وقال بن خواز منداد فإن قال عند مالك حي على الصلاة إلى آخر الأذان في النافلة كان مسيئا وصلاته تامة وكرهه في المكتوبة وقال بن وهب يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة وقال سحنون لا يقول ذلك في نافلة ولا مكتوبة وقال الليث مثل قول مالك إلا أنه قال ويقول في موضع حي على الصلاة حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال الشافعي لا يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن لا في نافلة ولا مكتوبة إذا سمعه وهو في الصلاة ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله وذكر الطحاوي قال لم أجد عن أحد من أصحابنا في هذا شيئا منصوصا وقد حدثنا بن أبي عمران عن بن سماعة عن أبي يوسف فيمن أذن في صلاته إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله ولم يقل حي على الصلاة ولا حي على الفلاح - أن صلاته لا تفسد إن أراد الأذان في قول أبي يوسف وفي قول أبي حنيفة تفسد صلاته إذا أراد الأذان قال أبو جعفر وقول محمد كقول أبي حنيفة لأنه يقول فيمن يجيب إنسانا - وهو يصلي - بلا إله إلا الله إن صلاته فاسدة قال فهذا يدل على أن من قولهم إن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله وذكر بن خواز منداد عن الشافعي أنه قال يقول في النافلة الشهادتين فإن قال حي على الصلاة حي على الفلاح - بطلت صلاته نافلة كانت أو فريضة قال أبو عمر القياس عندي أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة في هذا الباب لأن الكلام محرم فيهما وقول حي على الصلاة حي على الفلاح كلام فيها فلا يصلح في شيء من الصلاة. وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة وقد جاء في الآثار المرفوعة قول لا حول ولا قوة إلا بالله في مكان حي على الصلاة وحي على الفلاح وقد جاء عن النبي -عليه السلام- في حديث معاوية بن الحكم أنه قال عليه السلام ( (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قولوا مثل ما يقول المؤذن ولم يخص نافلة من فريضة)) فما جاز في الفريضة جاز في المكتوبة إلا أن مالكا كرهه في المكتوبة كراهية من غير تحريم كتحريم الكلام والذي يوجبه القياس والنظر أن ما كان من الذكر الجائز في الصلاة لم يفرق فيه بين نافلة ولا مكتوبة. وأما من كره ذلك وأبطل الصلاة به فجعله مثل تشميت العاطس ورد السلام وليس كذلك لأن التشميت ورد السلام من الكلام والكلام محرم في الصلاة قال زيد بن أرقم لما نزلت (وقوموا لله قانتين) [البقرة 238]. أمرنا بالسكون ونهينا عن الكلام وقال بن مسعود قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) وقد أباح فيها -عليه السلام- الذكر بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والتمجيد والدعاء فعلم أن الكلام المحرم فيها غير المباح من الذكر وبالله التوفيق. وأما حديثه عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله -عليه السلام- قال ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه - لاستهموا (2) ولو علموا ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا)) ففيه فضل الأذان والصلاة والأذان إنما هو النداء قال الله تعالى (إذا نودي للصلاة) [الجمعة 9]. وقال (وإذا ناديتم إلى الصلاة) [المائدة 58]. وفي فضائل الأذان آثار كثيرة قد جمعها جماعة وحسبك بقول رسول الله -عليه السلام- ((لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) وقال عليه السلام ((اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)) وقالت عائشة نزلت هذه الآية في المؤذنين قوله تعالى (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) [فصلت 32]. وروى بيان وإسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال عمر لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت وقال سعد بن أبي وقاص لأن أقوى على الأذان أحب إلي من أن أحج أو أعتمر وقال بن مسعود لو كنت مؤذنا لم أبال ألا أحج أو أعتمر وقال عمر لبعض أهل الكوفة من مؤذنوكم فقالوا عبيدنا وموالينا فقال إن ذلك لنقص بكم وقال بن عمر لرجل ما عمله قال الأذان قال نعم العمل يشهد لك كل رطب ويابس يسعك وعن أبي هريرة مثله وروى السكري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال النبي -عليه السلام- ((الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين)). قالوا يا رسول الله ! لو تركتنا بعدك ننافس في الأذان فقال إن بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم)) وهذا الحديث انفرد بهذه الزيادة فيه أبو حمزة وليس بالقوي. وأما الصف الأول ففي فضله آثار كثيرة وأحسنها حديث مالك في الاستهام عليه لأنه أرشد وندب إليه مؤكدا ومنها حديث أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الصف الأول لعلى مثل صف الملائكة ولو تعلمون ما فيه لابتدرتموه)) ومنها حديث جابر وأبى هريرة وأبي سعيد عن النبي عليه السلام - ((خير صفوف الرجال مقدمها وشرها مؤخرها وخير صفوف النساء المؤخر)). حدثنا البراء بن عازب عن النبي عليه السلام أنه قال ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) وحديث العرباض بن سارية قال كان النبي -عليه السلام- يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة)) وحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله -عليه السلام- رأى في بعض أصحابه تأخرا فقال لهم ((تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) وروت عائشة مثله وزادت ((حتى يؤخرهم الله في النار وهذا الوعيد إنما خرج على المنافقين الذين كانوا يرغبون عن رسول الله وعن القرب منه ويتأخرون عنه. وأما قوله في حديث مالك ((ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)) فالهاء في (عليه) عائدة على الصف الأول لا على النداء وهو حق الكلام أن يرد الضمير منه إلى أقرب مذكور ولا يرد إلى غير ذلك إلا بدليل وقد قيل أنه ينصرف إلى النداء أيضا وفسره القائل بأنه الموضع الذي لا يؤذن فيه إلا واحد بعد واحد وهذا موضع لا أعرفه في سنة ثابتة ولا قول صحيح وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أقرع بين قوم اختلفوا في الأذان ولقول سعد وجوه محتملة فلا حجة فيه لمن ذهب إليه وإنما جاء الاستهام على الصف الأول لا على الأذان وقد روي منصوصا عن النبي -عليه السلام- وعن طائفة من أصحابه ((لو يعلم الناس ما في الصف الأول ما صفوا فيه إلا بقرعة)) وآثار هذا الباب كلها عند بن أبي شيبة وأبي داود وسائر المصنفات. وأما التهجير فمعروف وهو البدار إلى الصلاة في أول وقتها وقبل وقتها لمن شاء ثم انتظارها قال الله تعالى (فاستبقوا الخيرات) [البقرة 148]. وقال عليه السلام ((المهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة)) وتواترت الآثار عن النبي -عليه السلام- أن من انتظر الصلاة - فهو في صلاة ما انتظرها وحسبك من هذا فضلا إذ الصلاة من أفضل أعمال البر ولا ينتظر بها إلا من هجر إليها وقد سمى رسول الله -عليه السلام- انتظار الصلاة بعد الصلاة رباطا وجاء رباط يوم خير من صيام شهر ولا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر عنها ثم صلى في الصف الأول وفي هذا ما يوضح لك معنى الصف الأول وأنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم والله أعلم وفي حديث قتادة عن أنس عن النبي -عليه السلام- أنه قال ((أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في المؤخر)). وأما العتمة والصبح فالآثار فيهما كثيرة أيضا روى أبو هريرة وأبي بن كعب وعائشة عن النبي -عليه السلام- بمعنى واحد أنه قال ( (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا)) وقال أبو الدرداء في مرضه الذي مات فيه ((اسمعوا وبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين - يعني في جماعة - العشاء والصبح ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوا على مرافقكم وركبكم وقد روي عن النبي -عليه السلام- ((شهود صلاة العشاء خير من قيام نصف ليلة)) وعن عمر قال لأن أشهد العشاء والفجر أحب إلي من أن أحيي ما بينهما وعن الحسن مثله وقال بن عمر كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الصبح أسأنا به الظن وهذه الآثار كلها بطرقها في كتاب أبي بكر بن أبي شيبة. 125- وأما حديثه عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه وإسحاق بن عبد الله أنهما أخبراه أنهما سمعا أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا ثوب بالصلاة (1) فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة)) فالتثويب ها هنا الإقامة ثاب إليها المؤذن أي رجع إلى ضرب من الأذان للصلاة كما يقال ثاب إلى المريض جسمه وقد روى بن شهاب هذا الحديث عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام قال ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)) الحديث وهو مما يبين لك أن التثويب هنا الإقامة وقد ذكرنا طرق هذا الحديث في التمهيد من حديث بن شهاب وغيره. وأما قوله ((وأنتم تسعون)) فالسعي ها هنا المشي على الأقدام بسرعة والاشتداد فيه وهو مشهور في اللغة ومنه السعي بين الصفا والمروة وقد يكون السعي أيضا في كلام العرب العمل بدليل قوله تعالى (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) [الإسراء 19]. و(إن سعيكم لشتى ) [الليل 4]. ونحو هذا كثير واختلف العلماء في السعي إلى الصلاة لمن يسمع الإقامة. 126- فروى مالك عن نافع عن بن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان يهرول إلى الصلاة وفي إسناده لين وضعف وعن بن مسعود أنه قال لو قرأت (فاسعوا إلى ذكر الله) [الجمعة 9]. لسعيت حتى يسقط ردائي وكان يقرأ (فامضوا إلى ذكر الله) وهي قراءة عمر أيضا وعن بن مسعود أنه قال أحق ما سعينا إليه الصلاة وعن الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن جبير أنهم كانوا يهرولون إلى الصلاة فهؤلاء كلهم ذهبوا إلى أن من خاف الفوت سعى ومن لم يخف مشى على هينته وقد روي عن بن مسعود خلاف ما ذكرنا عنه روى عنه القاسم بن عبد الرحمن أنه قال إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وروى عنه أبو الأحوص قال لقد رأيتنا وإنا لنقارب بين الخطا وروى ثابت عن أنس قال خرجنا مع زيد بن ثابت إلى المسجد فأسرعت المشي فحبسني وعن أبي ذر قال إذا أقيمت الصلاة فامش إليها كما كنت تمشي فصل ما أدركت واقض ما سبقك وهذه الآثار مذكورة بطرقها كلها في التمهيد وقد اختلف السلف في هذا الباب كما ترى على القول بظاهر حديث النبي -عليه السلام- في هذا إلا أن في سماع بن القاسم قال سئل مالك عن الإسراع في المشي إلى الصلاة إذا أقيمت قال ما أرى بذلك بأسا ما لم يسع أو يخف فوت الركعة قال وسئل مالك عن الرجل يخرج إلى الحرس فيسمع مؤذن المغرب في الحرس فيحرك فرسه ليدرك الصلاة قال مالك لا أرى بذلك بأسا قال إسحاق بن راهويه إذا خاف فوت التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسعى قال أبو عمر معلوم أن النبي -عليه السلام- إنما زجر عن السعي من خاف الفوت لقوله ((إذا أقيمت الصلاة)) و((إذا ثوب بالصلاة)) وقال ((فما أدركتم فصلوا)) فالواجب أن يأتي الصلاة من خاف فوتها ومن لم يخف بالوقار والسكينة وترك السعي وتقريب الخطا لأمر النبي -عليه السلام- بذلك وهو الحجة عليه السلام وقد قال بعض أصحابنا إن بن عمر لم يزد على هيئة مشيته المعهودة لأنه كان من عادته الإسراع في المشي ويقول هو أبعد من الزهو وهذا عندي خلاف ظاهر الحديث عنه لأن نافعا مولاه قد عرف مشيه وحاله فيه ثم زعم أنه لما سمع الإقامة أسرع المشي وهذا بين وقد روى بن عيينة عن حصين عن محمد بن زيد قال كان بن عمر إذا مشى إلى الصلاة لو مشت معه نملة ما سبقها وهذا عندي ليس بمخالف لحديث نافع عنه أنه أسرع إذا سمع الإقامة لأنه يحتمل أن يكون ما حكاه محمد بن زيد عنه في حال لا يخاف فيها أن يفوت شيء من الصلاة مع الإمام وكانت أغلب أحواله. وأما قوله -عليه السلام- في هذا الحديث ((وما فاتكم فأتموا)) على ما رواه مالك وغيره ففيه دليل على أن ما أدرك المصلي مع إمامة فهو أول صلاته وهذا موضع اختلف العلماء فيه وقد ذكرنا في التمهيد من قال في هذا الحديث عن النبي -عليه السلام- ((ما فاتكم فأتموا)) ومن قال ((ما فاتكم فاقضوا)) وهذان اللفظان تأولهما العلماء فيما يدركه المصلي من الصلاة مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها ولذلك اختلفت أقوالهم فيها فأما مالك بن أنس فاختلفت الرواية عنه في ذلك فروى سحنون عن جماعة من أصحاب مالك عن مالك - منهم بن القاسم - أن ما أدرك فهو أول صلاته ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة وهذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه قال بن خواز منداد وهو الذي عليه أصحابنا وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وداود والطبري وروى أشهب عن مالك أن ما أدرك فهو آخر صلاته وهو الذي ذكره بن عبد الحكم عن مالك ورواه عيسى عن بن القاسم عن مالك وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن حي هكذا ذكره بن خواز منداد عن أبي حنيفة وذكر الطحاوي عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أن الذي يقضي أول صلاته وكذلك يقرأ فيها ولم يحك خلافا وما ذكره الطحاوي أصح عندهم وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أرأيت قول من قال يجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته ومن قال يجعله آخر صلاته أي شيء يفرق بينهما قال من أجل القراءة فيما يقضي قلت له فحديث النبي -عليه السلام- على أي القولين هو عندك قال على أنه يقضي ما فاته قال -عليه السلام- ((صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم)). قال أبو عمر لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه من أدرك مع الإمام ركعتين - أنه يقرأ فيهما كما يقرأ إمامه بأم القرآن وحدها في كل ركعة منهما ثم يقوم إذا سلم الإمام فيقرأ بأم القرآن وسورة فيما يقضي في كل ركعة وهكذا قول الشافعي أيضا فكيف يصح مع هذا القول قول من قال عنهم إن ما أدرك فهو أول صلاته بل الظاهر أن ما أدرك فهو آخر صلاته على ما روى أشهب وغيره عن مالك ولكن الشافعي قد صرح بأن ما أدرك فهو أول صلاته وقوله في القضاء والقراءة كقول مالك سواء وكذلك صرح الأوزاعي بأن ما أدرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته وأظنهم راعوا الإحرام لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة والتشهد والتسليم لا يكون إلا في آخرها فمن ها هنا -والله أعلم- قال ما أدرك فهو أول صلاته وقال الثوري يصنع فيما يقضي مثل ما صنع الإمام فيه وقال الحسن بن حي أول صلاة الإمام أول صلاتك وآخر صلاة الإمام آخر صلاتك إذا فاتك بعض صلاتك. وأما المزني وإسحاق بن راهويه وداود بن علي فقالوا ما أدركه فهو أول صلاته يقرأ فيه الحمد وسورة إن أدرك ذلك معه وإذا قام إلى القضاء قرأ بالحمد وحدها فيما يقضي لنفسه لأنه آخر صلاته وهو قول عبد العزيز الماجشون فهؤلاء اطرد على أصلهم وقولهم وفعلهم. وأما السلف قبلهم فروي عن عمر وعلي وأبي الدرداء ما أدركت فهو آخر صلاتك وليست الأسانيد عنهم بالقوية في ذلك وعن بن عمر ومجاهد وبن سيرين مثل ذلك وصح عن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ما أدركت فاجعله أول صلاتك والذي يجيء على أصول هؤلاء ما قاله المزني وداود وإسحاق وليس عندي عنهم نص في ذلك واحتج القائلون بأن ما أدرك هو أول صلاته بقوله عليه السلام - ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)). قالوا والتمام هو الآخر واحتج الآخرون بقوله ((وما فاتكم فاقضوا)). قالوا فالذي يقضيه هو الفائت والحجج متساوية لكلا المذهبين من جهة الأثر والنظر إلا أن رواية من روى ((فأتموا)) أكثر والله أعلم إلا أنه ليس يطرد على أصل من قال ما أدرك فهو أول صلاته إلا ما قال بن أبي سلمة والمزني وإسحاق وداود وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن من ذهب مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة والمزني في هذه المسألة - أسقط الجهر في صلاة الليل وسنة السورة مع أم القرآن في الأوليين هذا ليس بشيء لأن المأموم مأمور باتباع إمامه والإنصات معه وإذا جاز أن يقعد معه في أولى له ويقوم في ثانيه وتنتقص رتبة صلاته معه فلا يضره ذلك (لأنه أمر باتباعه فكذلك لا يضره سائر ذلك) ألا ترى إلى إجماعهم أن من أدركه راكعا كبر وانحط ولا يقال له أسقطت فرض القراءة وفرض الوقوف لما أمر به من اتباع إمامه وقد احتج داود بن علي بأن من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى ركعتين - بهذا الحديث ((ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا)) أو فأتموا)). قالوا والذي فاته ركعتان لا أربع فليس عليه إلا ما فاته وذلك ركعتان ولعمري إن هذا لقول لو لم يكن هناك ما يعارضه وينقض تأويل قول داود فيه وذلك قوله - عليه - ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وفي هذا القول دليل كالنص على أن من لم (يدرك من الصلاة ركعة فلم يدرك الصلاة ومعلوم أن من لم يدرك) الجمعة صلى أربعا على أن داود قد جعل هذا الدليل أصلا لأحكام يرد بها كثيرا من الأصول الجسام وترك الاستدلال به في هذه المسألة. وأما قوله ((فإن أحدكم في صلاة ما دام يعمد إلى الصلاة)) فيدل على أن الماشي إلى الصلاة كالمنتظر لها وهما من الفضل فيما فيه المصلي إن شاء الله على ظاهر الآثار وهذا يسير في فضل الله ورحمته بعباده كما أنه من غلبة نوم على صلاة كانت له عادة - كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة وكذلك من نوى الجهاد أو غيره من أعمال البر وقطعه عنه عائق عجزه وفضل الله عظيم يمن به على من يشاء من عباده وليس فضائل الأعمال مما فيه للمقاييس مدخل والحمد لله. 127- مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه ((لا يسمع مدى صوت المؤذن (2) جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)). قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر فيه الأذان للمنفرد والمسافر وذلك عند مالك حسن إلا أن الأذان عنده في مساجد الجماعات وحيث يجتمع الناس فقد ورد في فضائل الأذان للمنفرد والمعتزل آثار حسان سنذكرها بعد في أولى المواضع بها من كتابنا هذا وفيه إباحة لزوم البادية واكتساب الغنم وأنه ينبغي للمرء أن يحب الغنم والبادية اقتداء بالسلف وفرارا من شر الناس واعتزالا عنهم ولكن في البعد عن الجماعة والجمعة ما فيه من البعد عن الفضائل إلا أن الزمان إذا كثر فيه الشر وتعذرت فيه السلامة طابت العزلة والجليس الصالح - إذا وجد - خير من العزلة والوحدة وقد روى مالك بهذا الإسناد عن النبي -عليه السلام- ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)). وأما قوله ((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) فالمدى الغاية حيث ينتهي الصوت فأما فهم الجماد والموات فلا يدرك كيفيته ذلك إلا الله وفي قوله تعالى (يا جبال أوبي معه) [سبأ 10]. أي سبحي معه وقوله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) [الإسراء 44]. وقوله (فما بكت عليهم السماء والأرض) الدخان. 25- ما يشهد لهذا المعنى وقد أوضحنا فيما مضى وجه قول من قال إنه على الحقيقة ومن حمله على المجاز والحمد لله وسنذكر في العزلة وفضلها ما حضرنا في موضعه من كتابنا ونذكر اختلاف العلماء في الأذان في السفر في الباب بعد هذا إن شاء الله. 128- وأما حديثه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال ((إذا نودي للصلاة (2) أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء (فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة (3) أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى الحديث ففيه أن من شأن الصلاة النداء لها قال تعالى (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا)) [المائدة 58]. وقال تعالى (إذا نودي للصلاة)) [الجمعة 9]. وأجمع المسلمون على أن الأذان في المكتوبات على ما قد ذكرناه عنهم ولم يختلفوا أن ذلك واجب في المصر على جماعته واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور وأحمد وجماعة العلماء على أن الرجل إذا صلى بإقامة في مصر قد أذن فيه فإنه يجزيه وجملة القول في الأذان أنه عند مالك وأصحابه سنة مؤكدة واجبة على الكفاية وليس بفرض وهو قول أبي حنيفة وأصحابه واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال هو فرض على الكفاية ومنهم من قال هو سنة مؤكدة على الكفاية وهذا في القرى والأمصار التي فيها الجماعات وتحصيل مذهب مالك في الإقامة أنها سنة أيضا مؤكدة إلا أنها أوكد من الأذان عنده وعند أصحابه ومن تركها فهو مسيء وصلاته مجزية وهو قول الشافعي وسائر الفقهاء فيمن ترك الإقامة أنه مسيء بتركها ولا إعادة عليه وقال أهل الظاهر والأوزاعي وعطاء ومجاهد هي واجبة ويرون الإعادة على من تركها عامدا أو ناسيا وقد ذكرنا في التمهيد وجوه أقوالهم في ذلك وسنذكر في الباب بعد هذا أقوال العلماء في الأذان في السفر ووجوهه ونبينه بأبسط وأكمل من ذكرنا له هنا إن شاء الله. وأما قوله ((أدبر الشيطان له ضراط)) فهكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج في نقل جماعة أصحاب أبي الزناد وقد روي فيه له حصاص كذلك رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا محمد بن غال حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سمعت أبا هريرة يروي عن النبي -عليه السلام- قال ((إن الشيطان إذا نودي للصلاة ولى وله حصاص)) الحديث لما يلحقه من الذعر والخزي عند ذكر الله في الأذان وذكر الله تفزع منه القلوب ما لا تفزع من شيء من الذكر لما فيه من الجهر بالذكر وتعظيم الله فيه وإقامة دينه فيدبر الشيطان لشدة ذلك على قلبه حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي النداء أقبل على طبعه وحيلته يوسوس في الصدور ويفعل ما يقدر مما قد سلط عليه حتى إذا ثوب بالصلاة - والتثويب ها هنا الإقامة - أدبر أيضا حتى إذا قضي التثويب - وهو الإقامة كما ذكرت لك - أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيوسوس في صدره ويشغله بذكر ما لا يحتاج إليه ليخلط عليه حتى لا يدري كم صلى وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد وفي هذا الحديث فضل للأذان عظيم ألا ترى أن الشيطان يدبر منه ولا يدبر من تلاوة القرآن في الصلاة بدليل قوله ((فإذا قضي التثويب أقبل)) وحسبك بهذا فضلا لمن تدبر وروى سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم وبن وهب عن مالك قال استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم فهم عليه حتى اليوم قال مالك وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم وقد ذكرنا في ((التمهيد)) من رواية سفيان الثوري وجرير بن حازم عن سليمان الشيباني عن بشير بن عمرو قال سمعت عمر بن الخطاب يقول إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كسحرة الإنس فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة وفي رواية الثوري عن الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه وذكر تمام الخبر حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم حدثنا محمد حدثنا أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال النبي -عليه السلام- ((إذا نادى المؤذن بالصلاة هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء)) وهي ثلاثون ميلا من المدينة. وأما لفظ التثويب فمأخوذ من ثاب الشيء يثوب إذا رجع كأن المقيم للصلاة عاد إلى معنى الأذان فأتى به يقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه للحرب قال حسان بن ثابت: في فتية كسيوف الهند أوجههم *** لا ينكلون إذا ما ثوب الداعي وقال حذيفة في معناه: لخير نحن عند الناس منكم *** إذا الداعي المثوب قال يال ويقال ثاب إلى الرجل عقله وثاب إلى المريض جسمه أي عاد إلى حاله قال عبد المطلب بن هاشم وهو بالمدينة عن أخواله بني النجار: فحنت ناقتي فعلمت أني *** غريب حين ثاب إلي عقلي وقال الشاعر: لو رأينا التأكيد خطة عجز *** ما شفعنا الأذان بالتثويب وأما قوله ((حتى يظل الرجل أن يدري كم صلى )) فإنه يريد حتى يصير الرجل لا يدري كم صلى والرواية في (أن) ها هنا عند أكثرهم بالفتح فيكون حينئذ بمعنى لا يدري وكذلك رواه جماعة الرواة عن مالك بهذا اللفظ ((حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى )) بكسر الهمزة فمعناه ما يدري ما صلى (وإن) بمعنى (ما) كثير وقيل يظل ها هنا بمعنى يبقى لا يدري كم صلى وأنشدوا: ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا *** أعد الحصى ما تنقضي عبراتي 129- وأما حديثه عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال ساعتان يفتح لهما أبواب السماء وقل داع ترد عليه دعوته حضرة النداء للصلاة والصف في سبيل الله فقد روي مرفوعا من حديث مالك وغيره وقد ذكرنا ذلك في التمهيد فمن ذلك ما حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا أبو عمرة أحمد بن عبد العزيز الرملي قال حدثنا أيوب بن سويد قال حدثنا مالك بن أنس عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال قال رسول الله ((ساعتان تفتح لهما أبواب السماء وقلما يرد على الداعي فيها دعوته حضرة الصلاة والصف في سبيل الله)) رواه عن أيوب بن سويد هكذا - جماعة منهم مؤمل بن إهاب وذكرنا في التمهيد أيضا حديث سليمان التيمي عن أنس عن النبي عليه السلام - قال (( إذا نودي بالأذان فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء)) وحديث يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي -عليه السلام- قال ((عند الأذان تفتح أبواب السماء وعند الإقامة لا ترد دعوة)) وروى الثوري عن يزيد عن أبي إياس عن أنس قال لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة موقوفا وقال عطاء عند نزول الغيث والتقاء الزحفين والأذان يستجاب الدعاء فأما قوله سئل مالك عن الأذان يوم الجمعة هل يكون قبل أن يحل الوقت قال لا يكون حتى تزول الشمس وقد ذكرنا اختلاف الناس في وقت الجمعة وأن الفقهاء أئمة الأمصار على أنه لا يجوز الأذان لها إلا بعد الزوال كالظهر وللاختلاف في ذلك سئل مالك عنه والله أعلم ولما أجمع الفقهاء على أنها تنوب في يومها عن الظهر - وجب أن يكون وقتها وقت الظهر قياسا ونظرا وعلى ذلك جماعة الفقهاء. وأما قوله إنه لم يبلغني في الأذان والإقامة إلا ما أدركت الناس عليه فأما الإقامة فإنها لا تثنى وهذا الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا فتصريح بأنه لم يبلغه فيه حديث من أخبار الآحاد وأن الأذان والإقامة عنده مأخوذان من العمل بالمدينة وهو أمر يصح فيه الاحتجاج بالعمل لأنه شيء لا ينفك منه في كل يوم مرارا وقد لا يصح لغيره مثل ذلك لأن كل بلدة أخذت علم شريعتها في أول أمرها عن الصحابة النازلين بها وهم الذين وعوا عن نبيهم وأمروا بالتبليغ فبلغوا وهذا يدلك أن الأذان وجه الاختلاف فيه الإباحة على ما قدمنا وقد مضى في الأذان والإقامة ما فيه كفاية. وأما قوله في قيام الناس إلى الصلاة إنه لا حد عنده فيه لأن الناس تختلف أحوالهم فمنهم الخفيف والثقيل - فيدل على أنه لم يكن عنده فيه عن السلف ما ينزع به في جواب سائله وهذه مسألة قديمة لكبار التابعين ومن تلاهم من فقهاء المسلمين وقد ذكرنا في التمهيد بالأسانيد عن عمرو بن مهاجر قال رأيت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي وسالم بن عبد الله وأبا قلابة وعراك بن مالك الغفاري ومحمد بن مسلم الزهري وسليمان بن حبيب يقومون إلى الصلاة في أول بدء الإقامة قال وسمعت عمر بن عبد العزيز يقول إذا سمعت النداء بالإقامة فكن أول من أجاب وقال إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة عدل الصفوف بيده عن يمينه ويساره فإذا فرغ المؤذن كبر وعن عمر بن عجلان قال سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصره يقول حين يقول المؤذن قد قامت الصلاة قوموا قد قامت الصلاة وعن بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال سمعت الزهري يقول ما كان المؤذن يقول قد قامت الصلاة حتى تعتدل الصفوف وعن بن المبارك عن أبي يعلى قال رأيت أنس بن مالك إذا قيل قد قامت الصلاة قام فوثب وعن الحسن وبن سيرين أنهما كانا يكرهان أن يقوما حتى يقول المؤذن قد قامت الصلاة وقال فرقد السبخي للحسن أرأيت إذا أخذ المؤذن في الإقامة أأقوم أم حتى يقول قد قامت الصلاة فقال الحسن أي ذلك شئت وروى كلثوم بن زياد عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام فإذا قال حي على الصلاة اعتدلت الصفوف فإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام. وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا لم يكن الإمام معهم في المسجد فإنهم لا يقومون حتى يروا الإمام وهو قول الشافعي وداود. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا كان الإمام معهم في المسجد فإنهم يقومون في الصف إذا قال المؤذن حي على الفلاح. وقال الشافعي وأصحابه وداود البدار في القيام إلى الصلاة أولى في أخذ المؤذن في الإقامة لأنه بدار إلى فعل بر وليس في شيء من ذلك شيء محدود عندهم وحجتهم حديث أبي قتادة عن النبي -عليه السلام- أنه قال ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) وقد ذكرنا أسانيد هذه الآثار كلها في التمهيد وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الإمام أيكبر إذا قال المؤذن حي على الصلاة قد قامت الصلاة أو حين يفرغ من الإقامة فقال حديث أبي قتادة ((لا تقوموا حتى تروني)) وقد روي عن بن عمر أنه كان يبعث إلى الصفوف فإذا استوت كبر وحديث ((لا تسبقني بآمين)) فأرجو ألا يضيق ذلك قال أبو عمر قوله وحديث ((لا تسبقني بآمين)) يعني حديث بلال أنه كان يتولى إقامة الصلاة فقال للنبي -عليه السلام- لا تسبقني بآمين أي لا تسبقني بقراءة فاتحة الكتاب فيفوتني معك قول آمين ومن ها هنا قال أبو هريرة من فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الحنظلي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن بلال أنه قال يا رسول الله ! لا تسبقني بآمين وفي هذا الحديث أن رسول الله كان يكبر للإحرام ويقرأ وبلال في إقامة الصلاة وهو مخالف لحديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة فلذلك قال أحمد أرجو ألا يضيق شيء مما قيل في هذا الباب وفي حديث بلال أن رسول الله كان يقول آمين وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل في حديث أبي قتادة عن النبي عليه السلام ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) أتذهب إليه قال أنا أذهب إلى حديث أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله وقد أقمنا الصفوف - فأقبل يمشي حتى أتى مقامه فذكر أنه لم يغتسل إسناده جيد ورواه الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ولا أدفع حديث أبي قتادة قال أبو عمر وحديث أبي قتادة رواه يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي عليه السلام وخرجه أهل الصحيح كلهم. وأما قوله وسئل عن قوم حضور أرادوا أن يجمعوا المكتوبة فأرادوا أن يقيموا ولا يؤذنوا فقال مالك ذلك مجزئ عنهم وإنما يجب النداء في مساجد الجماعات التي تجمع فيها الصلاة فقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلاف استحباب وما أعلم أحد أفسد صلاة من لم يؤذن إذا أقام بل الصلاة مجزئة عند جميعهم إذا صليت بإقامة وكذلك عند الجمهور ولو لم يقيموا وقد أساءوا. وقال الشافعي ترك رسول الله التأذين حين جمع بين الصلاتين بمزدلفة ويوم الخندق - دليل على أن التأذين ليس بواجب فرضا ولو لم تجز الصلاة إلا بأذان لم يدع ذلك وهو بمكة قال وإذا كان هكذا في الأذان كانت الإقامة كذلك لأنهما جميعا غير الصلاة. وقال الشافعي لا أحب لأحد أن يصلي في جماعة ولا وحده إلا بأذان وإقامة والإقامة عنده أوكد وهو قول الثوري ومالك أيضا قال مالك والثوري لا يجتزئ بإقامة أهل المصر - المصلي وحده. وقال أبو حنيفة وأصحابه إن استجزأ بإقامة أهل المصر وأذانهم أجزأه ويستحبون إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم ويأتي القول في أذان المسافر والمنفرد في باب الأذان في السفر بعد هذا الباب. وأما قوله وسئل عن تسليم المؤذن على الإمام ودعائه إياه للصلاة ومن أول من سلم عليه فقال لم يبلغني أن التسليم كان في الزمان الأول فهو كما قال لم يكن ذلك في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ويقال أول من فعل ذلك معاوية أمر المؤذن بأن يشعره ويناديه فيقول السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله الصلاة يرحمك الله وقد قيل إن المغيرة بن شعبة أول من فعل ذلك والأول أصح وكان مالك يقول في حي على الصلاة حي على الفلاح - ما يكفي من الدعاء إليها قال أبو عمر من خشي على نفسه الشغل عن الصلاة بأمور المسلمين وما يجوز فعله فلا بأس أن يقيم لذلك من يؤذنه بالصلاة ويشعره بإقامتها. وأما قوله في مؤذن أذن بقوم ثم انتظر هل يأتيه أحد فأقام فصلى وحده ثم جاء الناس من بعد أن فرغ من الصلاة أنهم يصلون أفرادا ولا يجمعون ولو جمعوا لم يجمع معهم - هذا معنى قوله دون لفظه - فإن بن نافع قال إنما عنى مالك بالمؤذن هنا الإمام الراتب إذا انتظر القوم وصلى ثم أتى الناس لم يجمعوا ولم يؤذن المؤذن قال بن نافع فإن لم يكن الإمام الراتب فلا بأس أن يجمعوا تلك الصلاة في ذلك المسجد ويصليها ذلك المؤذن معهم قال أبو عمر تفسير بن نافع لذلك تفسير حسن على اصل مذهب مالك في ذلك لأنه لم يختلف قوله إن كل مسجد له إمام راتب إنه لا تجمع فيه صلاة واحدة مرتين فإن كان مسجد على طريق يصلي فيه المارة يجمعون فيه فلمن جاء بعدهم أن يجمع فيه وهو قول بن القاسم وأجاز ذلك أشهب وروى بن مزين عن أصبغ قال دخلت المسجد مع أشهب وقد صلى الناس فقال لي يا أصبغ ! ائتم بي وتنحى إلى زاوية فأتممت به وفي ((العتبية)) لأشهب عن مالك في مسجد له إمام راتب في بعض الصلوات دون بعض أنه لا بأس أن يجمع فيه من الصلوات مرتين ما لا يجمع بإمام راتب وروى بن القاسم عن مالك أنه لا تجمع فيه صلاة مرتين لا من الصلوات التي يجمع فيها بالإمام الراتب ولا من غيرها قال أبو عمر هذه المسألة لا أصل لها إلا إنكار جمع أهل الزيغ والبدع وإلا يتركوا وإظهار نحلتهم وأن تكون كلمة السنة والجماعة هي الظاهرة لأن أهل البدع كانوا يرتقبون صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون لأنفسهم بإمامهم فرأى أهل العلم أن يمنعوا من ذلك وجعلوا الباب بابا واحدا فمنعوا منه الكل والأصل ما وصفت لك وقال الثوري كقول مالك في هذه المسألة لا تجمع صلاة في مسجد واحد مرتين ومن أتى مسجدا وقد صلى أهله فليصل وحده قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود بن علي وجمهور الفقهاء وأهل العلم لا بأس أن يجمع في المسجد مرتين واحتج أصحاب داود بالأحاديث في فضل صلاة الجماعة وبأن الله لم ينه عن ذلك ولا رسوله ولا اتفق أهل العلم عليه فلا وجه للنهي عنه واحتج غيرهم في ذلك أيضا حدثنا أبو محمد قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعيد حدثنا محمد بن إبراهيم بن حنون قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ بمكة وأبو داود السجستاني بالبصرة قالا حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا سليمان بن الأسود عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن النبي -عليه السلام- صلى إحدى صلاتي العشي فلما سلم دخل رجل لم يدرك الصلاة معه فاستقبل القبلة ليصلي فقال النبي -عليه السلام- ((ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه)) فقام رجل ممن صلى مع النبي عليه السلام - فصلى معه قال محمد بن إبراهيم. وحدثنا إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل قالا حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أنه دخل البصرة وقد صلى أهله ومعه قوم فسأل فقالوا قد صلينا فأمر بإقامة الصلاة وقد تقدم فصلى بمن معه قال أبو ثور إذا أذنوا وأقاموا وصلوا جماعة فهو أحب إلي. وحدثنا عبد الوارث وسعيد قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال جاء رجل وقد صلى النبي -عليه السلام- فقال ((أيكم يتجر على هذا)) فقام رجل من القوم فصلى معه وذكرنا في المصنف قال حدثنا هشيم قال حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان قال دخل رجل المسجد وقد صلى النبي -عليه السلام- فقال ((ألا رجل يتصدق على هذا فيقوم فيصلي معه)) وممن أجاز ذلك بن مسعود وأنس وعلقمة ومسروق والأسود والحسن وقتادة وعطاء على اختلاف عنه وقال إنما كانوا يكرهون أن يجمعوا مخافة السلطان. وأما قوله وسئل مالك عن أهل المسجد هل يصلون بإقامة غير المؤذن فقال لا بأس بذلك إقامته وإقامة غيره سواء فهذه مسألة خلاف أيضا فأما مالك وأبو حنيفة وأصحابهما فقالوا لا بأس أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره وقال الثوري والليث بن سعد والشافعي وأصحابه من أذن فهو يقيم وهو قول أكثر أهل الحديث وحجتهم حديث عبد الله بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان أول أذان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة فقام بلال ليقيم فقال رسول الله ((إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم)) وهو حديث انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم وحجة مالك حديث عبد الله بن زيد حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان فأمره رسول الله أن يلقيه على بلال وقال ((وهو أندى صوتا)) فلما أذن بلال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد ((أقم أنت)) فأقام وهذا الحديث أحسن إسنادا من حديث الإفريقي ومن جهة النظر ليست الإقامة مضمنة بالأذان فجائز أن يتولاها غير متولي الأذان. وأما قوله لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فأما غيرها من الصلوات فإنا لم نرها ينادى لها إلا بعد أن يحل وقتها فهذا يدلك على أن الأذان عنده مأخوذ من العمل لأنه لا ينفك منه كل يوم فيصح الاحتجاج فيه بالعمل لأنه ليس مما ينسى وكذلك غيره احتج بالعمل فيه أيضا لما قدمنا ذكره وكذلك اختلف العلماء في هذه المسألة فذهب أهل الحجاز والشام وبعض أهل العراق إلى إجازة الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر وممن قال بذلك مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود والطبري وهو قول أبي يوسف القاضي وروى عبد الملك بن الحسن عن بن وهب قال لا يؤذن لها إلا بالسحر فقيل له وما السحر قال السدس الآخر وقال بن حبيب يؤذن لها من بعد خروج وقت العشاء وذلك نصف الليل. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والثوري لا يؤذن للفجر حتى يطلع الفجر وهو قول بن مسعود وأصحابه وعائشة وإبراهيم النخعي ونافع مولى بن عمر والشعبي وجماعة وقد ذكرنا حجة كل فرقة منهم من جهة الآثار في باب حديث الزهري عن سالم عند قوله - عليه السلام ((إن بلالا ينادي بليل)) من كتاب التمهيد. 130- وأما قوله أنه بلغه أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح ( فوجده نائما) فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح فلا أعلم أنه روي هذا عن عمر من وجه يحتج به وتعلم صحته وإنما فيه حديث هشام بن عروة عن رجل يقال له إسماعيل لا أعرفه وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عمر عن رجل يقال له إسماعيل قال جاء رجل يؤذن عمر بصلاة الصبح فقال الصلاة خير من النوم فأعجب به عمر وقال للمؤذن أقرها في أذانك والمعنى فيه عندي أنه قال له نداء الصبح موضع القول بها لا ها هنا كأنه كره أن يكون منه نداء آخر عند باب الأمير كما أحدثه الأمراء بعده على ما قدمنا ذكره في هذا الباب وإنما حملني على هذا التأويل وإن كان الظاهر من الخبر خلافه لأن التثويب في صلاة الصبح أي قول المؤذن الصلاة خير من النوم - أشهر عند العلماء والعامة من أن يظن بعمر - رضي الله عنه - أنه جهل ما سن منه رسول الله -عليه السلام- وأمر به مؤذنيه بالمدينة بلالا وبمكة أبا محذورة فهو محفوظ معروف في تأذين بلال وأذان أبي محذورة في صلاة الصبح للنبي -عليه السلام- مشهور عند العلماء ونحن نذكر منه طرفا دالا ها هنا إن شاء الله ذكر بن أبي شيبة قل حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال كان أبو محذورة يؤذن لرسول الله ولأبي بكر ولعمر فكان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم قال. وحدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن طلحة عن سويد عن بلال وعن حجاج عن عطاء عن أبي محذورة أنهما كانا يثوبان في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم قال. وحدثنا وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة أنه أرسل إلى مؤذنه إذا بلغت إلى حي على الفلاح فقل الصلاة خير من النوم فإنه أذان بلال ومعلوم أن بلالا لم يؤذن قط لعمر ولا سمعه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة بالشام إذ دخلها وقد ذكرنا الخبر بذلك في غير هذا الموضع ذكر بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن بلالا أذن ذات ليلة ثم جاء يؤذن النبي -عليه السلام- فنادى الصلاة خير من النوم فأقرت في صلاة الصبح وذكر بن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن بن المسيب مثله وبن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري قال أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن أن جده سعدا كان يؤذن على عهد رسول الله لأهل قباء حتى نقله عمر بن الخطاب في خلافته فأذن له بالمدينة في مسجد النبي عليه السلام فزعم حفص أنه سمع من أهله أن بلالا أتى رسول الله ليؤذنه بصلاة الصبح بعد ما أذن فقيل أنه نائم فنادى بأعلى صوته الصلاة خير من النوم فأقرت في تأذين الفجر ثم لم يزل الأمر على ذلك وروى الليث بن سعد عن يونس عن الزهري مثله وقال الحسن كان بلال يقول في أذانه بعد حي على الفلاح ((الصلاة خير من النوم)) مرتين وروى سفيان عن بن عجلان عن نافع عن بن عمر قال كان في الأذان في الأول بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم. وأما حديثه عن عمه أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ففيه بيان أن الأذان لم يتغير منه شيء عما كان عليه وكذلك قال عطاء ما أعلم تأذينهم اليوم يخالف تأذين من مضى وفيه أن الأحوال تغيرت وانتقلت وتبدلت في زمانه ذلك عما كانوا عليه في زمان الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رحمهم الله - في أكثر الأشياء وقد احتج بهذا بعض من لم ير عمل أهل المدينة حجة وقال لا حجة إلا فيما نقل بالأسانيد الصحاح عن النبي -عليه السلام- وعن الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من العلماء. 131- وأما حديثه عن نافع أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد فقد مضى القول فيه في صدر هذا الباب والحمد لله.
|